فصل: ذكر أولاد إبراهيم الخليل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 مولد اسحاق

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112-113‏]‏‏.‏

وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيم وسارة، لما مروا بهم مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط، ليدمروا عليهم لكفرهم وفجورهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 69-73‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 51-56‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 24-30‏]‏‏.‏

يذكر تعالى أن الملائكة قالوا، وكانوا ثلاثة‏:‏ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، لما وردوا على الخليل حسبهم أضيافاً فعاملهم معاملة الضيوف، شوى لهم عجلاً سميناً من خيار بقره، فلما قربه إليهم وعرض عليهم، لم ير لهم همة إلى الأكل بالكلية، وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام ‏{‏نَكِرَهُمْ‏}‏ إبراهيم ‏{‏وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏ أي‏:‏ لندمر عليهم، فاستبشرت عند ذلك سارة غضباً لله عليهم، وكانت قائمة على رؤوس الأضياف، كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 186‏)‏

فلما ضحكت استبشاراً بذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ أي‏:‏ بشرتها الملائكة بذلك ‏{‏فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ في صرخة ‏{‏فَصَكَّتْ وَجْهَهَا‏}‏ أي‏:‏ كما يفعل النساء عند التعجب ‏{‏يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً‏}‏ أي‏:‏ كيف يلد مثلي، وأنا كبيرة وعقيم أيضاً، وهذا بعلي - أي زوجي - شيخاً تعجبت من وجود ولد والحالة هذه‏.‏

ولهذا قالت‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏ وكذلك تعجب إبراهيم عليه السلام استبشاراً بهذه البشارة، وتثبيتاً لها، وفرحاً بها‏.‏

{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ‏}‏ أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه، فبشروهما ‏{‏بَغُلامٍ عَلِيْم‏}‏ وهو إسحاق، وأخوه اسماعيل غلام حليم مناسب لمقامه وصبره‏.‏ وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد والصبر‏.‏

وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ وهذا مما استدل به محمد بن كعب القرظي وغيره، على أن الذبيح هو إسماعيل، وأن إسحاق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده‏.‏

وعند أهل الكتاب أنه أحضر مع العجل الحنيذ، وهو المشوي رغيفاً من مكة، فيه ثلاثة أكيال، وسمن، ولبن، وعندهم أنهم أكلوا‏.‏ وهذا غلط محض‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا يودون أنهم يأكلون، والطعام يتلاشى في الهواء‏.‏

وعندهم أن الله تعالى قال لإبراهيم‏:‏ أما سارا امرأتك فلا يدعى اسمها سارا، ولكن اسمها سارة، وأبارك عليها، وأعطيك منها ابناً وأباركه، ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه، فخر إبراهيم على وجهه - يعني ساجداً - وضحك قائلاً في نفسه أبعد مائة سنة يولد لي غلام، أو سارة تلد، وقد أتت عليها تسعون سنة‏.‏

وقال إبراهيم لله تعالى‏:‏ ليت إسماعيل يعيش قدامك، فقال الله لإبراهيم‏:‏ بحقي إن امرأتك سارة تلد لك غلاماً وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل، وأوثقه ميثاقي إلى الدهر ولخلفه من بعده، وقد استجبت لك في إسماعيل، وباركت عليه، وكبرته ونميته جداً كثيراً، ويولد له اثنا عشر عظيماً، وأجعله رئيساً لشعب عظيم، وقد تكلمنا على هذا بما تقدم، والله أعلم‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق، ثم من بعده بولد ولده يعقوب، أي‏:‏ يولد في حياتهما لتقر أعينهما به، كما قرت بولده‏.‏

ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب، وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة، ولما عين بالذكر دل على أنهم يتمتعان به، ويسران بولده، كما سرا بمولد أبيه من قبله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 187‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وهذا إن شاء الله ظاهر قوي، ويؤيده ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث سليمان بن مهران الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال‏:‏

قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏المسجد الحرام‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏المسجد الأقصى‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ كم بينهما‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أربعون سنة‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم حيث أدركت الصلاة فصل، فكلها مسجد‏)‏‏)‏‏.‏

وعند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله‏.‏ وهذا متجه ويشهد له ما ذكرناه من الحديث فعلى هذا يكون بناء يعقوب وهو اسرائيل عليه السلام، بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء‏.‏

وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود إسحاق لأن إبراهيم عليه السلام لما دعا قال في دعائه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35-41‏]‏‏.‏

وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس، سأل الله خلالاً ثلاثاً كما ذكرناه عند قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وكما سنورده في قصته، فالمراد من ذلك والله أعلم أنه جدَّد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة، ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حبان في تقاسيمه وأنواعه، وهذا القول لم يوافق عليه، ولا سبق إليه‏.‏

 بناء البيت العتيق

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96-97‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124-129‏]‏‏.‏

يذكر تعالى عن عبده، ورسوله، وصفيه، وخليله، إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء إبراهيم عليه أفضل صلاة وتسليم، أنه بنى البيت العتيق، الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس، يعبدون الله فيه، وبوأه الله مكانه، أي أرشده إليه، ودله عليه‏.‏

وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره، أنه أرشد إليه بوحي من الله عز وجل، وقد قدمنا في صفة خلق السموات أن الكعبة بحيال البيت المعمور بحيث أنه لو سقط لسقط عليها، وكذلك معابد السماوات السبع‏.‏

كما قال بعض السلف‏:‏ إن في كل سماء بيتاً يعبد الله فيه أهل كل سماء، وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض، فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني له بيتاً يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السماء، وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له، المعين لذلك، منذ خلق السماوات والأرض كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏

‏(‏‏(‏أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ولم يجئ في خبر صحيح عن معصوم، أن البيت كان مبنياً قبل الخليل عليه السلام، ومن تمسك في هذا بقوله‏:‏ مكان البيت، فليس بناهض ولا ظاهر، لأن المراد مكانه المقدر في علم الله، المقر في قدرته، المعظم عند الأنبياء موضعه، من لدن آدم إلى زمان إبراهيم‏.‏

وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة، وأن الملائكة قالوا له‏:‏ قد طفنا قبلك بهذا البيت، وأن السفينة طافت به أربعين يوماً، أو نحو ذلك، ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل‏.‏ وقد قررنا أنها لا تصدق، ولا تكذب، فلا يحتج بها، فأما إن ردها الحق فهي مردودة‏.‏

وقد قال الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ أول بيت وضع لعموم الناس للبركة، والهدى‏:‏ البيت الذي ببكة‏.‏ قيل‏:‏ مكة، وقيل‏:‏ محل الكعبة‏.‏

{‏فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ‏}‏ أي‏:‏ على أنه بناء الخليل والد الأنبياء من بعده، وإمام الحنفاء من ولده، الذين يقتدون به، ويتمسكون بسنته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 189‏)‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مَقَامُ إِبْرَاهِيْم‏}‏ أي‏:‏ الحجر الذي كان يقف عليه قائماً، لما ارتفع البناء عن قامته، فوضع له ولده هذا الحجر المشهور، ليرتفع عليه لما تعالى البناء، وعظم الفناء‏.‏ كما تقدم في حديث ابن عباس الطويل‏.‏

وقد كان هذا الحجر ملصقاً بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخره عن البيت قليلاً لئلا يشغل المصلين عنده، الطائفين بالبيت، واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا، فإنه قد وافقه ربه في أشياء منها‏:‏

في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الإسلام‏.‏

وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة‏:‏

وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه * وراق لبر في حراء ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكة * وبالله إن الله ليس بغافل

وبالحجر المسود إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل

يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة، فصارت على قدر قدمه حافية لا متنعلة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ‏}‏ أي‏:‏ في حال قولهما‏:‏

{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ فهما في غاية الإخلاص والطاعة لله عز وجل، وهما يسألان من الله السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة، والسعي المشكور ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

والمقصود أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع، في واد غير ذي زرع، ودعا لأهلها بالبركة، وأن يرزقوا من الثمرات مع قلة المياه وعدم الأشجار، والزروع والثمار، وأن يجعله حرماً محرماً، وآمنا محتماً فاستجاب الله وله الحمد له مسألته، ولبى دعوته، وأتاه طلبته‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ وسأل الله أن يبعث فيهم رسولاً منهم أي‏:‏ من جنسهم، وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة، لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية، سعادة الأولى والأخرى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 190‏)‏

وقد استجاب الله له، فبعث فيهم رسولاً، وأي رسول ختم به أنبياءه ورسله، وأكمل له من الدين ما لم يؤت أحدا قبله، وعم بدعوته أهل الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم، في سائر الأقطار والأمصار والأعصار، إلى يوم القيامة‏.‏

كان هذا من خصائصه من بين سائر الأنبياء، لشرفه في نفسه، وكمال ما أرسل به، وشرف بقعته، وفصاحة لغته، وكمال شفقته على أمته ولطفه ورحمته، وكريم محتده، وعظيم مولده، وطيب مصدره ومورده‏.‏

ولهذا استحق إبراهيم الخليل عليه السلام إذ كان باني الكعبة لأهل الأرض أن يكون منصبه ومحله وموضعه في منازل السموات، ورفيع الدرجات عند البيت المعمور، الذي هو كعبة أهل السماء السابعة، المبارك المبرور، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور‏.‏

وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بناية البيت، وما ورد في ذلك من الأخبار والآثار، بما فيه كفاية، فمن أراده فليراجعه ثم ولله الحمد‏.‏

فمن ذلك ما قال السدي‏:‏ لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، ثم لم يدريا أين مكانه حتى بعث الله ريحاً يقال له الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، وذلك حين يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ‏}‏‏.‏

فلما بلغا القواعد بنيا الركن، قال إبراهيم لإسماعيل‏:‏ يا بني اطلب لي حجراً حسناً أضعه ههنا وقال‏:‏ يا أبت إني كسلان تعب‏.‏ قال على ذلك فانطلق وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل النعامة، وكان آدم هبط به من الجنة، فاسودّ من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر، فوجده عند الركن‏.‏

فقال‏:‏ يا أبتي من جاءك بهذا‏؟‏

قال‏:‏ جاء به من هو أنشط منك، فبنيا وهما يدعوان الله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

وذكر ابن أبي حاتم أنه بناه من خمسة أجبل، وأن ذا القرنين وكان ملك الأرض إذ ذاك مر بهما وهما يبنيانه فقال‏:‏ من أمركما بهذا‏؟‏

فقال إبراهيم‏:‏ الله أمرنا به‏.‏

فقال‏:‏ وما يدريني بما تقول‏؟‏

فشهدت خمسة أكبش أنه أمره بذلك، فآمن وصدق‏.‏

وذكر الأزرقي أنه طاف مع الخليل بالبيت‏.‏ وقد كانت على بناء الخليل مدة طويلة، ثم بعد ذلك بنتها قريش فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال، مما يلي الشام على ما هي عليه اليوم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 191‏)‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث مالك عن ابن شهاب، عن سالم أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر بن عمر عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏ألم تري إلى قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لولا حدثان قومك‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية ‏(‏‏(‏لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر‏)‏‏)‏‏.‏

وقد بناها ابن الزبير رحمه الله في أيامه على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبما أخبرته خالته عائشة أم المؤمنين عنه، فلما قتله الحجاج في سنة ثلاث وسبعين، كتب إلى عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك، فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بردها إلى ما كانت عليه‏.‏

فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الحجر، ثم سدوا الحائط، وردموا الأحجار في جوف الكعبة، فارتفع بابها الشرقي، وسدوا الغربي بالكلية، كما هو مشاهد إلى اليوم، ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين ندموا على ما فعلوا، وتأسفوا أن لو كانوا تركوه، وما تولى من ذلك‏.‏

ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور، استشار الإمام مالك بن أنس في ردها على الصفة التي بناها ابن الزبير، فقال له‏:‏ إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة - يعني كلما جاء ملك بناها على الصفة التي يريد - فاستقر الأمر على ما هي عليه اليوم‏.‏

 ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم

قال الله‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ لما وفى ما أمره ربه به من التكاليف العظيمة، جعله للناس إماماً يقتدون به، ويأتمون بهديه، وسأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه وباقية في نسبه، وخالدة في عقبه، فأجيب إلى ما سأل ورام‏.‏ وسلمت إليه الإمامة بزمام، واستثنى من نيلها الظالمون، واختص بها من ذريته العلماء العاملون كما قال تعالى‏:‏

{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84-87‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 192‏)‏

فالضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ عائد على إبراهيم على المشهور‏.‏

ولوط وإن كان ابن أخيه، إلا أنه دخل في الذرية تغليباً، وهذا هو الحامل للقائل الآخر إن الضمير على نوح، كما قدمنا في قصته، والله أعلم‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 26‏]‏ الآية‏.‏ فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل، فمن ذريته وشيعته، وهذه خلعة سنية لا تضاهى، ومرتبة علية لا تباهى‏.‏

وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان‏:‏ إسماعيل من هاجر، ثم إسحاق من سارة‏.‏ وولد لهذا يعقوب - وهو إسرائيل - الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم، فكانت فيهم النبوة وكثروا جدا بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم، واختصهم بالرسالة والنبوة، حتى ختموا بعيسى بن مريم من بني إسرائيل‏.‏

وأما إسماعيل عليه السلام فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏ ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق، وسيدهم وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، القرشي، الهاشمي، المكي، ثم المدني، صلوات الله وسلامه عليه -

فلم يوجد من هذا الفرع الشريف، والغصن المنيف، سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرة، وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع، ويغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة‏.‏ وقد ثبت عنه في صحيح مسلم كما سنورده أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

فمدح إبراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق، ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلاق في هذه الحياة الدنيا، ويوم يكشف عن ساق‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول‏:‏

‏(‏‏(‏إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أهل السنن من حديث منصور به‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

ذكر المفسرون لهذا السؤال أسباباً بسطناها في التفسير، وقررناها بأتم تقرير‏.‏ والحاصل أن الله عز وجل أجابه إلى ما سأل، فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور، واختلفوا في تعينها على أقوال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 193‏)‏

والمقصود حاصل على كل تقدير، فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن، ويخلط ذلك بعضه في بعض، ثم يقسمه قسماً، ويجعل على كل جبل منهن جزء اً‏.‏

ففعل ما أمر به، ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن، فلما دعاهن، جعل كل عضو يطير إلى صاحبه، وكل ريشة تأتي إلى أختها، حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء كن فيكون، فأتين إليه سعياً، ليكون أبين له، وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيراناً‏.‏

ويقال إنه أمر أن يأخذ رؤوسهن في يده، فجعل كل طائر يأتي فيلقي رأسه فيتركب على جثته كما كان، فلا إله إلا الله، وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، علماً يقيناً لا يحتمل النقيض، ولكن أحب أن يشاهد ذلك عياناً، ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فأجابه الله إلى سؤاله، وأعطاه غاية مأموله‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 65-68‏]‏‏.‏

ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، في دعوى كل من الفريقين كون الخليل على ملتهم وطريقتهم، فبرأه الله منهم، وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ فكيف يكون على دينكم، وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة‏؟‏‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ فبين أنه كان على دين الله الحنيف، وهو القصد إلى الإخلاص، والإنحراف وعمداً عن الباطل، إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 194‏)‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ

قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ آنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏[‏البقرة‏:‏ 130-140‏]‏‏.‏

فنزّه الله عز وجل خليله عليه السلام، عن أن يكون يهودياً أو نصرانياً وبيـّن أنه إنما كان حنيفاً مسلماً، ولم يكن من المشركين‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏‏.‏

يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه، ومن تمسك بدينه من بعدهم‏.‏

‏{‏وَهَذَا النَّبِيُّ‏}‏ يعني‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل، وكمله الله تعالى له، وأعطاه ما لم يعطِ نبياً ولا رسولاً قبله‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161-163‏]‏‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120-123‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال‏:‏

‏(‏‏(‏قاتلهم الله، والله إن يستقسما بالأزلام قط‏)‏‏)‏‏.‏

لم يخرجه مسلم، وفي بعض ألفاظ البخاري‏:‏

‏(‏‏(‏قاتلهم الله، لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط‏)‏‏)‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أُمَّةً‏}‏ أي‏:‏ قدوة، إماماً، مهتدياً، داعياً إلى الخير، يقتدى به فيه‏.‏

‏{‏قَانِتاً لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ خاشعاً له في جميع حالاته وحركاته، وسكناته‏.‏

‏{‏حَنِيفاً‏}‏ أي‏:‏ مخلصاً على بصيرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 195‏)‏

{‏وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ‏}‏ أي‏:‏ قائماً بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله‏.‏

‏{‏اجْتَبَاهُ‏}‏ أي‏:‏ اختاره الله لنفسه، واصطفاه لرسالته، واتخذه خليلاً وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏ يرغب تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام، لأنه كان على الدين القويم، والصراط المستقيم، وقد قام بجميع ما أمره به ربه، ومدحه تعالى بذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 27‏]‏ ولهذا اتخذه الله خليلاً، والخلة هي غاية المحبة كما قال بعضهم‏.‏

قد تخللت مسلك الروح مني * وبذا سمي الخليل خليلا

وهكذا نال هذه المنزلة، خاتم الأنبياء وسيد الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما من حديث جندب البجلي، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏يا أيها الناس إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أيضاً في آخر خطبة خطبها‏:‏

‏(‏‏(‏أيها الناس لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه من حديث أبي سعيد، وثبت أيضاً من حديث عبد الله بن الزبير، وابن عباس، وابن مسعود‏.‏

وروى البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ إن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏‏.‏

فقال رجل من القوم‏:‏ لقد قرت عين أم إبراهيم‏.‏

وقال ابن مردويه‏:‏ حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة، حدثنا عبد الله الحنفي، حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏

جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول‏:‏ عجب أن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله‏.‏

وقال آخر‏:‏ ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليماً‏.‏

وقال آخر‏:‏ فعيسى روح الله وكلمته‏.‏

وقال آخر‏:‏ آدم اصطفاه الله‏.‏

فخرج عليهم فسلم وقال‏:‏

‏(‏‏(‏قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى كليمه وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك‏.‏ ألا وإني حبيب الله ولا فخر، ألا وإني أول شافع وأول مشفّع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة باب الجنة فيفتحه الله فيدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 196‏)‏

حديث غريب من هذا الوجه، وله شواهد من وجوه أخر، والله أعلم‏.‏

وروى الحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏ من حديث قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ أتنكرون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد المسلمي، حدثنا الوليد، عن إسحاق بن بشار قال‏:‏ لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن كان خفقان قلبه ليسمع من بعد، كما يسمع خفقان الطير في الهواء‏.‏

وقال عبيد بن عمير‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوماً يلتمس إنساناً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلاً قائماً فقال‏:‏ يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني‏؟‏

قال‏:‏ دخلتها بإذن ربها‏.‏

قال‏:‏ ومن أنت‏؟‏

قال‏:‏ أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره بأن الله قد اتخذه خليلاً‏.‏

قال‏:‏ من هو‏؟‏ فو الله إن أخبرتني به، ثم كان بأقصى البلاد لآتيّنه ثم لا أبرح له جاراً حتى يفرق بيننا الموت‏.‏

قال‏:‏ ذلك العبد أنت‏.‏

قال‏:‏ أنا‏!‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فبمَ اتخذني ربي خليلاً‏؟‏

قال‏:‏ بأنك تعطي الناس ولا تسألهم‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً في غير ما موضع، بالثناء عليه والمدح له، فقيل‏:‏ إنه مذكور في خمسة وثلاثين موضعاً، منها خمسة عشر في البقرة وحدها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصاً من بين سائر الأنبياء في آيتي الأحزاب والشورى‏.‏

وهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ الآية‏.‏

ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وجده عليه السلام في السماء السابعة، مسنداً ظهره بالبيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم‏.‏

وما وقع في حديث شريك بن أبي نمير، عن أنس في حديث الإسراء من أن إبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة، فمما انتقد على شريك في هذا الحديث، والصحيح الأول‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 197‏)‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الرحمن‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

ثم مما يدل على أن إبراهيم أفضل من موسى، الحديث الذي قال فيه‏:‏

‏(‏‏(‏وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏ رواه مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه‏.‏

وهذا هو المقام المحمود الذي أخبر عنه صلوات الله وسلامه عليه بقوله‏:‏

‏(‏‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ذكر استشفاع الناس بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فكلهم يحيد عنها حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏

‏{‏أنا لها، أنا لها‏.‏‏.‏‏}‏ الحديث‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الله، حدثني سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قيل يا رسول الله من أكرم الناس‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتقاهم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فعن معادن العرب تسألوني، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، والنسائي من طريق عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ قال أبو أسامة ومعتمر عن عبيد الله، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ وقد أسنده في موضع آخر من حديثهما، وحديث عبدة بن سليمان، والنسائي من حديث محمد بن بشر أربعتهم عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبدة، حدثنا عبد الصمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 198‏)‏

تفرد به من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر به‏.‏

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، فأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج كلاهما عن مغيرة بن النعمان النخعي الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به‏.‏

وهذه الفضيلة المعينة لا تقتضي الأفضلية بالنسبة إلى ما قابلها، مما ثبت لصاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون‏.‏

وأما الحديث الآخر الذي قال الأمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، وأبو نعيم، حدثنا سفيان - هو الثوري - عن مختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا خير البرية، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ذاك إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

فقد رواه مسلم من حديث الثوري، وعبد الله بن إدريس، وعلي بن مسهر، ومحمد بن فضيل أربعتهم، عن المختار بن فلفل‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وهذا من باب الهضم والتواضع مع والده الخليل عليه السلام، كما قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تفضلوني على الأنبياء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا كله لا ينافي في ما ثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه، من أنه سيد ولد آدم يوم القيامة، وكذلك حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم‏:‏

‏(‏‏(‏وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

ولما كان إبراهيم عليه السلام أفضل الرسل، وأولي العزم بعد محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أمر المصلى أن يقول في تشهده ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث كعب بن عجرة وغيره قال‏:‏ قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد‏)‏‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ وفي جميع ما أمر به، وقام بجميع خصال الإيمان وشعبه، وكان لا يشغله مراعاة الأمر الجليل عن القيام بمصلحة الأمر القليل، ولا ينسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصغار‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 199‏)‏

قال‏:‏ ابتلاه الله بالطهارة‏:‏ خمس في الرأس، وخمس في الجسد‏.‏

في الرأس‏:‏ قص الشارب، والمضمضة، والسواك، والاستنشاق، وفرق الرأس‏.‏

وفي الجسد‏:‏ تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال‏:‏ وروى عن سعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وأبي صالح، وأبي الجلد نحو ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏الفطرة خمس‏:‏ الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم، وأهل السنن، من حديث وكع، عن ذكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة العبدري المكي الحجبي، عن طلق بن حبيب العتري، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏عشر من الفطرة‏:‏ قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء‏)‏‏)‏‏.‏

يعني الاستنجاء‏.‏ وسيأتي في ذكر مقدار عمره الكلام على الختان‏.‏

والمقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يشغله القيام بالإخلاص لله عز وجل، وخشوع العبادة العظيمة، عن مراعات مصلحة بدنه، وإعطاء كل عضو ما يستحقه من الإصلاح والتحسين، وإزالة ما يشين من زيادة شعر، أو ظفر، أو وجود قلح، أو وسخ، فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏‏.‏

 قصره في الجنة

قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي، ومحمد بن موسى القطان، قالا‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن في الجنة قصراً أحسبه قال من لؤلؤة، ليس فيه فصم ولا وهي، أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال البزار‏:‏ وحدثناه أحمد بن جميل المروزي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذا الحديث لا نعلم رواه عن حماد بن سلمة، فأسنده إلا يزيد بن هارون، والنضر بن شميل، وغيرهما يرويه موقوفاً‏.‏ قلت‏:‏ لولا هذه العلة لكان على شرط الصحيح، ولم يخرجوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 200‏)‏

 صفة إبراهيم عليه السلام

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس وحجين قالا‏:‏ حدثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏عرض علي الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم، فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً دحية‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه، وبهذا اللفظ‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عمر، حدثنا إسرائيل، عن عثمان - يعني ابن المغيرة - عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏رأيت عيسى بن مريم، وموسى، وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا له‏:‏ فإبراهيم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انظروا إلى صاحبكم‏)‏‏)‏ يعني نفسه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا بنان بن عمرو، حدثنا النضر، أنبأنا ابن عون، عن مجاهد، أنه سمع ابن عباس، وذكروا له الدجال بين عينيه كافراً و ‏(‏ك ف ر‏)‏ فقال‏:‏ لم أسمعه، ولكنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فجعد آدم على جمل أحمر مخطوم بخلبه، كأني أنظر إليه انحدر في الوادي‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري أيضاً، ومسلم عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن عبد الله بن عون به‏.‏

وهكذا رواه البخاري أيضاً في كتاب الحج، وفي اللباس، ومسلم جميعاً عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن عبد الله بن عون به‏.‏

 وفاة إبراهيم وما قيل في عمره

ذكر ابن جرير في تاريخه، أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان، وهو فيما قيل الضحاك الملك المشهور، الذي يقال‏:‏ إنه ملك ألف سنة، وكان في غاية الغشم والظلم‏.‏

وذكر بعضهم أنه من بني راسب الذين بعث إليهم نوح عليه السلام، وأنه كان إذ ذاك ملك الدنيا‏.‏

وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمر، فهال ذلك أهل ذلك الزمان، وفزغ النمرود‏.‏ فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك، فقالوا‏:‏ يولد مولود في رعيتك يكون زوال ملكك على يديه، فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء، وأن يقتل المولودون من ذلك الحين‏.‏

فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين، فحماه الله عز وجل، وصانه من كيد الفجار، وشب شباباً باهراً، وأنبته الله نباتاً حسناً، حتى كان من أمره ما تقدم، وكان مولده بالسوس، وقيل‏:‏ ببابل‏.‏ وقيل‏:‏ بالسواد من ناحية كوثى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 201‏)‏

وتقدم عن ابن عباس أنه ولد ببرزة شرقي دمشق، فلما أهلك الله نمرود على يديه، وهاجر إلى حران، ثم إلى أرض الشام، وأقام ببلاد إيليا كما ذكرنا، وولد له إسماعيل وإسحاق‏.‏

وماتت سارة قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان، ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة، فيما ذكر أهل الكتاب، فحزن عليها إبراهيم عليه السلام، ورثاها رحمها الله، واشترى من رجل من بني حيث، يقال له عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال، ودفن فيها سارة هنالك‏.‏

قالوا‏:‏ ثم خطب إبراهيم على ابنه إسحاق، فزوجه رفقا بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح، وبعث مولاه فحملها من بلادها، ومعها مرضعتها وجوارها على الإبل‏.‏

قالوا‏:‏ ثم تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا، فولدت له‏:‏ زمران، ويقشان، ومادان، ومدين، وشياق، وشوح‏.‏ وذكروا ما ولد كل واحد من هؤلاء أولاد قنطورا‏.‏

وقد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف، عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخباراً كثيرة، الله أعلم بصحتها‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه مات فجأة، وكذا داود، وسليمان، والذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ ثم مرض إبراهيم عليه السلام، ومات عن مائة وخمس وسبعين، وقيل‏:‏ وتسعين سنة، ودفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثي عند امرأته سارة التي في مزرعة عفرون الحيثي، وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتي سنة، كما قاله ابن الكلبي‏.‏

وقال أبو حاتم بن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة، حدثنا علي بن زياد اللخمي، حدثنا أبو قرة عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏اختتن إبراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الحافظ بن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم، وجعفر بن عون العمري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد عن أبي هريرة موقوفاً‏.‏

ثم قال ابن حبان ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر وهم‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد نيست، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏اختتن إبراهيم حين بلغ مائة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، واختتن بقدوم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏وقد أتت عليه ثمانون سنة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 202‏)‏

ثم روى ابن حبان عن عبد الرزاق أنه قال‏:‏ القدوم اسم القرية، قلت الذي في الصحيح أنه اختتن وقد أتت عليه ثمانون سنة‏.‏ وفي رواية‏:‏ وهو ابن ثمانين سنة، وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن اسماعيل الحساني الواسطي زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من الزيادات‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال‏:‏ كان إبراهيم أول من تسرول، وأول من فرق، وأول من استحد، وأول من اختتن بالقدوم، وهو ابن عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، وأول من قرى الضيف، وأول من شاب‏.‏

هكذا رواه موقوفاً، وهو أشبه بالمرفوع خلافاً لابن حبان، والله أعلم‏.‏

وقال مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كان إبراهيم أول من أضاف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب‏.‏

فقال يا رب‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقال الله تبارك و تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏وقار يا إبراهيم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال يا رب‏:‏ زدني وقاراً‏.‏

وزاد غيرهما‏:‏ وأول من قص شاربه، وأول من استحد، وأول من لبس السراويل‏.‏ فقبره، وقبر ولده إسحاق، وقبر ولد ولده يعقوب، في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم، وهذا تلقي بالتواتر أمة بعد أمة، وجيل بعد جيل، من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا، أن قبره بالمربعة تحقيقاً‏.‏

فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم، فينبغي أن تراعي تلك المحلة، وأن تحترم احترام مثلها، وأن تبجل، وأن تجل أن يداس في أرجائها، خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد من أولاده الأنبياء عليهم السلام تحتها‏.‏

وروى ابن عساكر بسنده إلى وهب بن منبه، قال‏:‏ وجد عند قبر إبراهيم الخليل على حجر كتابة خلقة‏:‏

إلهي جهولاً أمله * يموت من جا أجله

ومن دنا من حتفه * لم تغن عنه حيله

وكيف يبقى آخر * من مات عنه أوله

والمرء لا يصحبه * في القبر إلا عمله

 ذكر أولاد إبراهيم الخليل

أول من ولد له إسماعيل من هاجر القبطية المصرية، ثم ولد له إسحاق من سارة بنت عم الخليل، ثم تزوج بعدها قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له ستة‏:‏ مدين، وزمران، وسرج، ويقشان، ونشق، ولم يسم السادس‏.‏ ثم تزوج بعدها حجون بنت أمين، فولدت له خمسة‏:‏ كيسان، وسورج، وأميم، ولوطان، ونافس‏.‏ هكذا ذكره أبو القاسم السهيلي في كتابه ‏(‏التعريف والاعلام‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 203‏)‏

ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة، قصة قوم لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة الغميمة، وذلك أن لوطاً بن هاران بن تارح وهو آزر كما تقدم، ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل، فإبراهيم وهاران وناحور أخوة كما قدمنا‏.‏

ويقال‏:‏ إن هاران هذا هو الذي بنى حران، وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب، والله أعلم‏.‏

وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام، بأمره له وإذنه، فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر، وكأن أم تلك المحلة، ولها أرض ومعتملات وقرى مضافة إليها، ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم، وأسوأهم طوية، وأرداهم سريرة وسيرة، يقطعون السبيل، ويأتون في ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون‏.‏

ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النسوان لعباده الصالحين، فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات، والفواحش المنكرات، والأفاعيل المستقبحات، فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم، واستمروا على فجورهم وكفرانهم، فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم، وجعلهم مثلة في العالمين، وعبرة يتعظ بها الألباء من العالمين‏.‏

ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم في غير ما موضع من كتابه المبين، فقال تعالى في سورة الأعراف‏:‏ ‏{‏وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 80-84‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة هود‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *

قَالَتْ يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ

قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 69-83‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 204‏)‏

وقال تعالى في سورة الحجر‏:‏

‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ * فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ *

قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 51-77‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الشعراء‏:‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 160- 175‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة النمل‏:‏

‏{‏وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 54-58‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 205‏)‏

وقال تعالى في سورة العنكبوت‏:‏

‏{‏وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 28-35‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الصافات‏:‏

{‏وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 133-138‏]‏‏.‏

وقال تعالى في الذاريات بعد قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم‏:‏

‏{‏قال‏:‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 31-37‏]‏‏.‏

وقال في سورة الانشقاق‏:‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏‏[‏القمر‏:‏ 33-40‏]‏‏.‏

وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السورة في التفسير، وقد ذكر الله لوطاً وقومه في مواضع أخر من القرآن، تقدم ذكرها مع قوم نوح، وعاد، وثمود، والمقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم، وما أحل الله بهم، مجموعاً من الآيات والآثار، وبالله المستعان‏.‏

وذلك أن لوطاً عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من الفواحش، فلم يستجيبوا له، ولم يؤمنوا به، حتى ولا رجل واحد منهم، ولم يتركوا ما عنه نهوا، بل استمروا على حالهم، ولم يرتدعوا عن غيهم وضلالهم، وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم، واستضعفوه وكثروا منه‏.‏

وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا‏:‏ ‏{‏أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 56‏]‏‏.‏

فجعلوا غاية المدح ذماً يقتضي الإخراج، وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج، فطهره الله وأهله إلا امرأته، وأخرجهم منها أحسن إخراج، وتركهم في محلتهم خالدين، لكن بعد ما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج، وحر يتوهج، وماؤها ملح أجاج‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 206‏)‏

وما كان هذا جوابهم إلا لمـَّا نهاهم عن ارتكاب الطامة العظمى، والفاحشة الكبرى، التي لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا، ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها، وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويأتون في ناديهم - وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم - المنكر من الأقوال والأفعال، على اختلاف أصنافه‏.‏

حتى قيل‏:‏ إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، ولا يستحيون من مُجالسهم، وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل، ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظ، ولا نصيحة من عاقل، وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلا، ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضي، ولا راموا في المستقبل تحويلاً، فأخذهم الله أخذا وبيلاً‏.‏

وقالوا له فيما قالوا‏:‏ ‏{‏ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الأليم، وحلول البأس العظيم‏.‏

فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين، وإله المرسلين، أن ينصره على القوم المفسدين، فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته، واستجاب لدعوته، وأجابه إلى طلبته، وبعث رسله الكرام وملائكته العظام، فمروا على الخليل إبراهيم، وبشروه بالغلام العليم، وأخبروه بما جاؤوا له من الأمر الجسيم، والخطب العميم‏.‏

{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏‏[‏الذاريات‏:‏ 31-34‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31-33‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ وذلك أنه كان يرجو أن ينيبوا ويسلموا، ويقلعوا ويرجعوا‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏‏.‏

أي‏:‏ أعرض عن هذا، وتكلم في غيره، فإنه قد حتم أمرهم ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم‏.‏

{‏إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ قد أمر به من لا يرد أمره، ولا يرد بأسه، ولا معقب لحكمه‏.‏ وإنهم آتيهم عذاب غير مردود‏.‏

وذكر سعيد بن جبير، والسدي، وقتادة، ومحمد بن إسحاق‏:‏ أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول‏:‏ أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمائتا مؤمن‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأربعون مؤمنا‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأربعة عشر مؤمناً‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ إلى أن قال أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا‏}‏ الآية ‏[‏العنكبوت‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وعند أهل الكتاب أنه قال‏:‏ يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلاً صالحاً‏؟‏

فقال الله‏:‏ لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحاً، ثم تنازل إلى عشرة فقال الله‏:‏ لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 207‏)‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏هود‏:‏ 77‏]‏

قال المفسرون‏:‏ لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم، وهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم، في صور شبان حسان، اختباراً من الله تعالى لقوم لوط، وإقامة للحجة عليهم، فاستضافوا لوطاً عليه السلام، وذلك عند غروب الشمس، فخشي إن لم يضفهم، يضيفهم غيره، وحسبهم بشراً من الناس، وسيء بهم، وضاق بهم ذرعاً، وقال هذا يوم عصيب‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومحمد بن إسحاق‏:‏ شديد بلاؤه، وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم، كما كان يصنع بهم في غيرهم، وكانوا قد اشترطوا عليه أن لا يضيف أحداً، ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه‏.‏

وذكر قتادة أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها، فتضيفوا فاستحيى منهم، وانطلق أمامهم، وجعل يعرّض لهم في الكلام لعلّهم ينصرفون عن هذه القرية، وينزلون في غيرها‏.‏

فقال لهم فيما قال‏:‏ والله يا هؤلاء، ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء، ثم مشى قليلاً، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات، قال‏:‏ وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك‏.‏

وقال السدي‏:‏ خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قوم لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقى من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان‏:‏ اسم الكبرى ريثا، والصغرى ذعرتا‏.‏

فقالوا لها‏:‏ يا جارية هل من منزل‏؟‏

فقالت لهم‏:‏ مكانكم، لا تدخلوا حتى آتيكم، فرقت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت‏:‏ يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم، وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلاً، فجاء بهم فلم يعلم أحداً إلا أهل البيت‏.‏

فخرجت امرأته فأخبرت قومها فقالت‏:‏ إن في بيت لوط رجالاً، ما رأيت مثل وجوههم قط، فجاءه قومه يهرعون إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 78‏]‏ أي‏:‏ هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة، الكبيرة، الكثيرة‏.‏

‏{‏قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ يرشدهم إلى غشيان نسائهم، وهن بناته شرعاً؛ لأن النبي للأمة بمنزلة الوالد، كما ورد في الحديث، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وفي قول بعض الصحابة والسلف‏:‏ وهو أب لهم‏.‏

وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 165-166‏]‏‏.‏

وهذا هو الذي نص عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق وهو الصواب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 208‏)‏

والقول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب، وقد تصحف عليهم، كما أخطأوا في قولهم إن الملائكة كانوا اثنين، وإنهم تعشوا عنده‏.‏ وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطاً عظيماً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 78‏]‏ نهي لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة، وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة، ولا فيه خير، بل الجميع سفهاء، فجرة أقوياء، كفرة أغبياء‏.‏

وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوا منه، من قبل أن يسألوه عنه‏.‏ فقال قومه عليهم لعنة الله الحميد المجيد‏.‏ مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الأمر السديد‏:‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 79‏]‏‏.‏

يقولون عليهم لعائن الله‏:‏ لقد علمت يا لوط أنه لا أرب لنا في نسائنا، وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا من غير النساء‏.‏ واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم، ولم يخافوا سطوة العظيم، ذي العذاب الأليم‏.‏

ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏ ودّ أن لو كان له بهم قوة، أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم، ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب‏.‏

وقد قال الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً‏:‏

نحن أحق بالشك من إبراهيم، ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي‏.‏

ورواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة‏.‏

وقال محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 67-71‏]‏‏.‏

فأمرهم بقربان نسائهم، وحذرهم الاستمرار على طريقتهم، وسيآتهم هذا، وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون، بل كلما لهم يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرصون‏.‏ ولم يعلموا ما حمَّ به القدر مما هم إليه صائرون، وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون‏.‏

ولهذا قال تعالى مقسماً بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 36-38‏]‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 209‏)‏

ذكر المفسرون وغيرهم، أن نبي الله لوطاً عليه السلام، جعل يمانع قومه الدخول ويدافعهم، والباب مغلق وهم يرومون فتحه وولوجه، وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب، وكل ما لهم في إلحاح وإلعاج، فلما ضاق الأمر، وعسر الحال قال ما قال‏:‏ ‏{‏لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد‏}‏ لأحللت بكم النكال‏.‏

قالت الملائكة‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ‏}‏ وذكروا أن جبريل عليه السلام حرج عليهم، فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه، فطمست أعينهم، حتى قيل‏:‏ إنها غارت بالكلية، ولم يبق لها محل، ولا عين، ولا أثر، فرجعوا يتجسسون مع الحيطان، ويتوعدون رسول الرحمن، ويقولون‏:‏ إذا كان الغد كان لنا وله شأن‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏37-38‏]‏ فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط عليهم السلام، آمرين له بأن يسري هو وأهله من آخر الليل، ولا يلتفت منكم أحد، يعني عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه، وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا امْرَأَتَكَ‏}‏ على قراءة النصب‏:‏

يحتمل أن يكون مستثنى من قوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ كأنه يقول‏:‏ إلا امرأتك فلا تسر بها‏.‏

ويحتمل أن يكون من قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏ أي‏:‏ فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم‏.‏ ويقوي هذا الاحتمال قراءة الرفع، ولكن الأول أظهر في المعنى، والله أعلم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ واسم امرأة لوط‏:‏ والهة، واسم امرأة نوح‏:‏ والغة‏.‏ وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين، النظراء والأشباه الذين جعلهم الله سلفاً لكل خائن مريب‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏‏.‏

فلما خرج لوط عليه السلام بأهله - وهم ابنتاه - ولم يتبعه منهم رجل واحد، ويقال‏:‏ إن امرأته خرجت معه فالله أعلم‏.‏ فلما خلصوا من بلادهم، وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر الله ما لا يرد‏.‏ ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد‏.‏

وعند أهل الكتاب‏:‏ أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذي هناك، فاستبعده وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم، فقالوا‏:‏ اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير إليها، وتستقر فيها، ثم نحل بهم العذاب‏.‏ فذكروا أنه ذهب إلى قرية صغر التي يقول الناس غور زغر، فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏‏[‏هود‏:‏ 82-83‏]‏‏.‏

قالوا اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن، وكن سبع مدن بمن فيهن من الأمم، فقالوا‏:‏ إنهم كانوا أربع مائة نسمة، وقيل‏:‏ أربعة آلاف نسمة، وما معهم من الحيوانات وما يتبع تلك المدن من الأراضي والأماكن والمعتملات، فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء، حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم، ونباح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 210‏)‏

قال مجاهد‏:‏ فكان أول ما سقط منها شرفاتها‏.‏

{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ والسجيل‏:‏ فارسي معرب، وهو‏:‏ الشديد الصلب القوي‏.‏

‏{‏مَنْضُودٍ‏}‏ أي‏:‏ يتبع بعضها بعضاً في نزولها عليهم من السماء‏.‏

‏{‏مُسَوَّمَةً‏}‏ أي‏:‏ معلمة، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 173‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 35-54‏]‏ يعني‏:‏ قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، وغشاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة، مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين، والنازحين، والشاذين منها‏.‏

ويقال‏:‏ إن امرأة لوط مكثت مع قومها، ويقال‏:‏ إنها خرجت مع زوجها وبنتيها، ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة، والتفتت إلى قومها، وخالفت أمر ربها قديماً وحديثاً، وقالت‏:‏ واقوماه، فسقط عليها حجر فدمغها، وألحقها بقومها إذ كانت على دينهم، وكانت عيناً لهم على من يكون عند لوط من الضيفان‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه‏.‏

وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة، حاشا وكلا ولما‏.‏ فإن الله لا يقدر على نبي أن تبغى امرأته، كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف‏:‏ ما بغت امرأة نبي قط‏.‏ ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيرا‏.‏

قال الله تعالى في قصة الإفك، لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فعاتب الله المؤمنين، وأنّب وزجر، ووعظ وحذر، وقال فيما قال‏:‏

{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 15-16‏]‏ أي‏:‏ سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة‏.‏

وقوله ههنا‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم‏.‏ ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصناً أو لا‏.‏ نصَّ عليه الشافعي، وأحمد بن حنبل، وطائفة كثيرة من الأئمة‏.‏

واحتجوا أيضاً بما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏)‏‏)‏‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل، ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 211‏)‏

وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة، لا ينتفع بمائها، ولا بما حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها، لرداءتها ودناءتها، فصارت عبرة ومثلة وعظة، وآية على قدرة الله تعالى وعظمته، وعزته في انتقامه ممن خالف أمره، وكذب رسله، واتبع هواه وعصى مولاه، ودليلاً على رحمته بعباده المؤمنين، في إنجائه إياهم من المهلكات، وإخراجه إياهم الظلمات إلى النور‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 8-9‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 73-77‏]‏‏.‏

أي‏:‏ من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها‏؟‏ وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة‏.‏ هالكة غامرة‏؟‏

كما روى الترمذي، وغيره مرفوعاً‏:‏

‏(‏‏(‏اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ‏)‏‏)‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ لبطريق مهيع، مسلوك إلى الآن‏.‏

كما قالوَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 35-37‏]‏‏.‏

أي‏:‏ تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة، وخشي الرحمن بالغيب، وخاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فانزجر عن محارم الله، وترك معاصيه، وخاف أن يشابه قوم لوط، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه كما قال بعضهم‏:‏

فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم * فما قوم لوط منكم ببعيد

فالعاقل اللبيب، الخائف من ربه الفاهم، يمتثل ما أمره الله به عز وجل، ويقبل ما أرشده إليه رسول الله، من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال، والجواري من السراري ذوات الجمال‏.‏ وإياه أن يتبع كل شيطان مريد، فيحق عليه الوعيد، ويدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 212‏)‏